يُصِرُّ أبنائي على أن أزورَ جدة: أنتِ تحتاجين ذلك يا أمي. اُمكثي أسبوعين على الأقل، زوري أهلَكِ، صِلي رحمَك، تنقّلي ما بين عماتك وأخوالك وأحبابك، اقضِ معهم بعضًا من رمضان.
إنّهم يْمْعِنون في وصفِ رغبةٍ دفينةٍ لم أتفطّنْ لها.
صحيح، أنا أحتاجُ زيارةَ جدة، أحتاجُ تلك الجرعة، كان يُفترضُ بها أن تكونَ عادةً سنوية؛ لكن لم يُكتب لها أن تنشأ؛ لأن أمي غير موجودة. ماذا أفعل في جدة بدون أمي؟ أصبحتِ الرياضُ أمّي الجديدة، فهي حياتي وقبلتي ومستقبلي، فيها بيتي وأبنائي، لكن هل ينفي التجاهل وجود الموجود؟
تشغلُكَ أحداثُ الحياة، تجْتاحُكَ بمدِّ مسؤولياتها، تغرقُك. وما أن يرتدَّ الماء ويحين موعدُ الجزرِ يتكشّف لك كلُّ شي، يظهرُ لك ما وراء تلك السنين في لحظةِ مد وجزر. لم تنتهِ تلك الذكريات ولم يخْفُتِ ذلك الحنين. لقد كنتَ تحتَ طائلةِ مدّ أحداثِ الحياة، كبُر الأبناء وانحسرتِ المشاغلُ والمسؤوليات، وبرزُ الحنينُ المطمور.
هل هي صدفةٌ أن تتزامنَ عودتي إلى الكتابةِ مع عودتي إلى جدة؟ لقد تجاهلتُ جدةَ تمامًا كما تجاهلتُ الكتابةَ، مع أنّي كنتُ محتاجةً لكليهما، لقد حانَ وقتُ اللجوءِ إلى عميقِ داخلي.
لقد زرتِ جدةَ عدة مرات، فلم تسمّينها عودة هذه المرة؟ لأن الزيارة هذه المرة تأتي تحت عنوان “زيارة جدة”، بأهلها بأسلوبها بطقوسها بهوائها. كانت زياراتي السابقة مهام اجتماعية أومشاركات وجدانية، إما لعزاء أولحضور حفل زواج، لكن هذه المرة لا يُوجدُ سببٌ للزيارة، فقط أريدُ أن أكونَ في جدة.
أتحولُ في زيارتي لجدة إلى مرشدٍ سياحي لأبنائي. لا، الاسم غير دقيق، بل مُرشد مكاني: نحنُ الآن على طريقِ المدينة الطالع، في هذه المستشفى وُلدت أختي أماني، وهنا على اليسار أسواقُ المساعدية، على اليمين كان يوجد بوتيكٌ راقٍ -نسيتُ اسمه- اشتريتُ منه فستانا ذات مرة. من عند “الكوبري” المربع ننعطفُ يمينًا، على اليسار هناك مستشفى بقشان ويقابله على اليمين مكتبة نسيت اسمها، هل كان اسمها القرطاسية؟ لم أعد أذكر. المهم كان خلفها بيت عمتي فتحية.
على يسارِ طريق المدينة هناك حي السلامة؛ فندقُ الدار البيضاء، معاملُ سمير كوداك، وقبله ربما كان هناك مطعم “ليالي العرب”، لم نكن حينها ندخل المطاعم. المُهم حيُّ السلامة كان مرادفًا لأخوالي؛ فيه بيت خالي وخالاتي، وجدي أحمد خالُ أمي.
أعرفُ من جدة شوارع محددة، هي تلك التي أزورُ عبرها قريبًا أو حبيبًا، أبعدُ مكانٍ عرفته كان شارعَ الأمير ماجد، عمتي نور كانت تسْكن هناك.
كنتُ ذات يوم أفطرُ مع خالتي عيشة، وصل بنا الكلام إلى باب مكة، وعمارة الموصلي[1]، الحنينُ بلغ مداه، فقلتُ:
- و عم يِسْلم؟
- موجود، زارت نادية عمارة الموصلي قبل شهور وقالت إنه موجود.
- قالت لي نادية إنها زارت ملاهي الفلاح، وأنهم يقيمونها في العيد، وأن التبديل اليدوي للعبة الصندوق أصبح كهربائيًا .. نقدر نروح عمارة الموصلي؟
- تبغين تروحين؟
- إيوا.
- قومي.
- وبنلاقي عم يسلم؟
- بنشوف، إن شاء الله نلاقيه.
تمسح عيناي شوارعَ البلد في جدة القديمة، وقبلَ وصولِنا لعمارة الموصلي، أشَرْتُ إلى مكانٍ على اليمين: هناك كان دكان عمي سعيد. قالت: لا، دكان عمك في الشارع الثاني. تقدّمْنا قليلا ثم شَخَصَتْ أمامنا عمارةُ الموصلي، تبدو أصغرَ ممّا كنتُ أتخيل. من هذا المدخل كنا ندخل لشقة خالي عبدالله في الدور الثالث. هذه المكتبة كنّا نشتري منها دفاترَ المدرسة، هل كان اسمَها مكتبة الأمين؟ وهناك على الطرف الآخر من العمارة فندق آسيا تحته محل حلويات صغير كنا نشتري منه البسبوسة.
أغذُّ الخطا نحو بقالة عم يِسْلم، أريدُ أن أستبقي شيئًا من عمارةِ الموصلي التي أعرف، الدكاكين كانت مغلقة. أشَرْتُ للمحلات على طول الصفّ الذي فيه البقالة: هناك كان دكان أبناء عمتي. كنت أرى المسافة إليه في ذلك الوقت بعيدة جدا. محلُّ البقالة كان مغلقًا، انتهى الحماسُ وعُدْتُ أدراجي، لم يعدِ المكانَ الذي أعرف. كنتُ أريد أن أرى عم يِسْلم والبقالةَ وثلاجاتِها التي تُفتح من الأعلى. لم أجدْ عم يِسْلم، لم أجدْ عمارة الموصلي.
سأزورُ جدةَ إن شاء الله في رمضان، ليس من الصواب التنقُل وتبديد الأوقات الثمينة في الشهر الفضيل. يكْفيني أن أكونَ بين عمّاتي وخالاتي. سأروي[2] ذاكرتي ومخيلتي بجلوسي مع عماتي وخالاتي وبناتهن، وبحديثي مع بنات أعمامي وأخوالي. هناك الكثير من الذكريات لا أريدُ لها أن تتلاشى، وهناك الكثيرُ من الأسماء التي تمنحُ الذكرياتِ التّماسكَ والبقاء؛ الأسماء محطاتٌ في الذاكرة، وأوتادُ الذكريات، هي من يثبتُ أنكَ كنتَ هناك.
أرتدُّ طالبةً في المرحلة الثانوية مع كلِّ لحظة فارقة لأبنائي؛ مع تخرّج أحدِهم أو زواجِ آخر ،كيف مرّتِ السُّنون؟ أشعرُ للحظةٍ بأنّي لم أعشْها. يشدهُني الموقفُ، ماذا حصل؟ لقد كنتُ بالأمسِ أقفُ مرتديةً مريولي الأصفر في فناءِ الثانويّة الأولى بجدة، و أنا الآن أحضر زواج ابني!
أقْترِبُ من الكلامِ الصّعب، اقترب من أمي “أنيسة”، كلُّ معنىً لجدة توقّف بعد وفاةِ أمي، وما جدةُ إلا أمّي؟ لا أستطيعُ أن أطيلَ الكلامَ في هذا المُقام. خلال سنةٍ واحدة انْقطعت علائقي بجدة، انْفصلَ حبْلي السّري الذي يربطني بجدة، رحلتْ أمي.. رحلتْ جدة.
سأزورُ جدةَ إنْ شاءَ الله، يبدو أنّني أصبحتُ على استعدادٍ الآن أنْ أستوعبَ جدة بدون أمي؛ أن أستوعبَها بذكْرى أمي، بأنْ أكونَ في الأماكنِ التي كانتْ فيها، بأن أكونَ بقُرْبِ كلّ من أحبَّها.
ملاحظة: هذه التدوينة ما هي إلا عنوان لما تعنيه جدة لي، وليست استقصاء لذكر أسماء أهلي وأحبابي، وإنّما أذكرُ الاسم الذي يأتي في سياق المشاهد التي ذكرتُها.
وربما لو اتخذَ الحديثُ مسارا آخر لذكرتُ أسماء أخرى. جميعُ الأسماءِ في القلب وكما نقولُ نحن الحضارم: العُمدة على القلوب.
[1] لا أجزم بواقعية الحوار، كأنّه هو.
[2] سأسقيها
تاريخ المقالة الأصلي